الانتخابات التركية كانت محور حديث منصات التواصل والإعلام في الأيام الماضية، لأنها شهدت هذه المرة العديد من المواقف المثيرة؛ وكأن العالم كان يترقب نتيجة هذه الانتخابات على أحر من الجمر، وخاصة الجانب الأوروبي؛ لما للانتخابات من أثر على سياساتٍ مستقبلية، خاصة بعد الأحداث الروسية الأوكرانية في الفترة الماضية. في المقال الحالي نستعرض لكم أهم الأحداث في هذه الانتخابات، ونصحبكم في رحلة تاريخية موجزة عن تاريخ تركيا الحديث؛ فتابعوا معنا.
بين الطيب وكمال
قبل انطلاق الانتخابات كانت الأحداث تشتعل والكل يترقب؛ فبين رجب طيب أردوغان الذي يظهر في المشهد منذ عقدين تقريبًا وبين ممثل المعارضة كمال كليجدار أوغلو. وبعد العديد من الأحداث جاءت النتيجة الحاسمة بفوز الرئيس رجب طيب أردوغان بدورةٍ رئاسيةٍ جديدة على منافسه. وهذا الأمر قلب الموازين وخاصة عند الاتحاد الأوروبي؛ فما زالت هذه الانتخابات محور حديثٍ وتحليل؛ وقد نُشر مؤخرًا مقالًا في صحيفة التلغراف البريطانية للكاتب كون كوعلين والذي تناول أثر هذه الانتخابات على قوة الاتحاد الأوروبي. ولكن ما الذي يجعل أردوغان غير مقبول على بعض الأصعدة الدولية؛ لنعرف أكثر علينا أن نعود إلى الخلف.
الدولة الحديثة وانهيار الإمبراطورية
مع عام 1924 أُعلن رسميًا إلغاء الخلافة العثمانية عبر المتمرد على الدولة مصطفى كمال أتاتورك؛ والذي حاز لقبه هذا عام 1934 والذي منحه إياه البرلمان التركي ويعني أبو الترك. بدأت حياته العسكرية من المدرسة العسكرية وحتى دخوله الكلية الحربية في إسطنبول، وحسب مقالٍ نشرته مدونة الجزيرة؛ فمصطفى كمال كان يتقن عددًا من اللغات الأجنبية؛ فكان يجيد الفارسية، والقليل من العربية، ويعرف الألمانية والفرنسية؛ نظرًا لأهميتهما العسكرية في ذلك الوقت. كانت حركة كمال أتاتورك هي بداية النهاية للإمبراطورية التي استمرت قرونًا تحفر في تاريخ الزمان اسمها بأحرفٍ أضاءت وأظلمت. حتى دق أتاتورك مسمارًا أخيرًا في نعشها.
لم يكن طموح أتاتورك أن يزيل الخلافة العثمانية فقط، لكنه ذهب لأبعد من ذلك وأسس دولة جديدة بمفاهيم وقيم مختلفة، دولة بنُي عليها مستقبل تركيا الحديث، وعانت من العديد من الأحداث بسبب الأفكار التي زرعها أتاتورك؛ لتصبح الدولة التركية الجديدة على النقيض من الخلافة العثمانية التي سقطت. وكانت القيم التي نص عليها كمال أتاتورك أن الدولة الحديثة علمانية وديمقراطية تسير حسب القيم الغربية.
العلمانية المتشددة والقومية التركية
أكد أتاتورك على مبدأين رئيسين هما العلمانية الشديدة والتي توغلت في الحياة التركية بشكلٍ لافت؛ فلم تكن مجرد علمانية في شعاراتٍ ودعوات، بل كانت تفرض قيودها على الجميع؛ بداية من الملبس والمظهر الخارجي، وحتى أدق التفاصيل في حياة الشعب. وبدأ بتغيير الحرف العربي في اللغة التركية بالحرف اللاتيني لإنهاء أي علاقة بالدولة القديمة، وأصبحت العاصمة في أنقرة وما زالت إلى اللحظة الحالية. أصبحت الدولة الحديثة مغايرة تمامًا لأي تقليدٍ قديم، وأي مظهر ينتمي إلى الدولة القديمة لم يعد له وجود في جهورية أتاتورك الجديدة.
عضوية الأمم والاعتراف بإسرائيل – أبرز الأحداث
بعد ازدهار العصر الأتاتوركي وأصبحت قيم الدولة الحديثة ظاهرة في كل تفاصيل الحياة في تركيا؛ دخلت تركيا مسار التعددية الحزبية، وأصبحت منفتحة على العالم الخارجي في ثوبٍ جديد يعبر عن العلمانية التامة ويمكن وصفها بالعلمانية المتطرفة؛ والتي أزالت أي أثر ديني من الساحة بشكلٍ لافتٍ؛ فلم تكن تقبل هذه الدولة النمط الديني وكأنها ترفض العودة إلى النمط العثماني حتى ولو بالتمسك بالشكل الديني التقليدي. وبدأت مجموعة من الأحداث التاريخية البارزة في هذه الحقبة من تاريخ الدولة، وتمثلت في:
العلاقات التركية الأمريكية
مع مطلع عام 1946 انضمت الدولة التركية الحديثة إلى الأمم المتحدة، وفي العام التالي تلقت حزمة من المساعدات المتمثلة في الدعم العسكري والاقتصادي من الولايات المتحدة الأمريكية. ومع عام 1948 عقدت تركيات اتفاقية رسمية مع الولايات المتحدة الأمريكية تنص على التعاون الاقتصادي بين البلدين. وفي عام 1954 عقدت اتفاقًا آخر مع الولايات المتحدة الأمريكية نص على إنشاء قواعد عسكرية أمريكية في البلاد. شهدت هذه الفترة تعاونًا بارزًا بين تركيا وأمريكا وخاصة بعد بروزها على الساحة العالمية بوصفها دولة عظمى بعد إنهاء الحرب العالمية الثانية، وكأن تركيا حينها كانت تسعى إلى المشاركة في الميدان الدولي بثوبها الجديد عبر الاندماج مع الغرب ليس فقط بتبني أفكارهم لكن أيضًا عبر المصالح المشتركة.
إسرائيل وتركيا
على الرغم من أن تركيا في هذا الوقت كانت علمانية تمامًا كما أشرنا، لكنها كان ما تزال ذات هوية إسلامية وهو الأمر الذي جعلها أول دولة إسلامية تعترف رسميًا بقيام إسرائيل عام 1949 وكأنها تقطع أي أواصر بينها وبين العالم الإسلامي، وكأن قيام إسرائيل لا يمثل لها أي مشكلة، وزادت العلاقات في عام 1952 وذلك عندما تبنت علاقات دبلوماسية كاملة بين تركيا وإسرائيل من خلال تبادل السفراء؛ لينتقل الأمر من مجرد اعتراف إلى صداقة وتعاون.
حكم مندرس (مندريس) وحقبة الانقلابات
مع عام 1950 تقلد عدنان مندرس رئاسة الوزراء التركيا، وتبنى منهجًا خاصًا ربما كان في ظاهره معاداة للدولة الحديثة؛ وأصبحت المعارضة التي كانت تتبنى أفكار أتاتورك تهاجم عدنان مندرس وتتهمه أنه يتبنى منهجًا يسعى إلى خلط الدين بالسياسة لإرضاء طبقة الفلاحين ومداعبة مشاعرهم الدينية، واستمر في الحكم حتى عام 1960 مع أول انقلاب عسكري تشهده تركيا الحديثة منذ التأسيس.
الانقلاب الأول وإعدام مندرس
شهدت تركيا أول انقلاب عسكري لها عام 1960 والذي أطاح بحكومة مندريس من الحكم ولم يكتف بذلك بل شن حملاتٍ انتقامية أفضت إلى حبس مندريس وبعض أعوانه، وتنفيذ حكم الإعدام فيهم؛ ليكون أول رئيس وزراء يُعدم في الدولة التركيا الحديثة على مرأى ومسمع. كان صعود مندريس ينذر بحكمٍ ديني وكأنه عصر الإحياء للدولة التركية القديمة لكن في ثوبٍ حديث، وهو الأمر الذي أقلق حزب أتاتورك وكل من تبنى أفكاره؛ ولكن الانقلاب الأول كان فاتحة لغيره من الانقلابات الأخرى.
توالي الانقلابات العسكرية
لم يكن انقلاب 1960 هو الأخير في تركيا، لكنه كان بداية لحقبةٍ من الانقلابات العسكرية التي اشتهرت بها الدولة الحديثة؛ فمع عام 1971 شهدت البلاد انقلابًا جديدًا أطاح بالسلطة الحاكمة، ، حتى جاء عام 1980 والذي شهد الانقلاب الأبرز والذي جاء بأحكامٍ عرفية للبلاد وأدخل تركيا في دوامةٍ جديدة مليئة بأحكام الإعدام والتعذيب للمعارضين.
لم تكن نهاية الدولة عند هذه الانقلابات، لكنها شهدت نموًا جديدًا للشعور الديني، ومع مطلع التسعينيات بدأت الدولة تستعيد مرة تلو الأخرى قوتها من جديد، ومع مرور السنوات أصبح تركيا تبني دولة حقيقية تقوم على الاهتمام ببناء اقتصاد قوي وقوة عسكرية فعلية، يكون هدفها حماية المواطنين وليس التعدي على حقوقهم وإزهاق أرواحهم؛ لتعود الانتخابات التركية الحالية وتذكرنا بهذه الأحداث التاريخية التي تشبه أيامنا التي نعيشها الآن.
كانت هذه مقالة عامة عن المسارات التاريخية التي مرت بها الدولة التركية وعن الانتخابات الأخيرة؛ نرجو أن نكون قد سلطنا الضوء بشكلٍ كافٍ على أهم الأحداث، وانتظروا منّا المزيد من المقالات التي تتناول الأحداث الجارية في عالمنا.